ويعود أبو ذر الى عشيرته وقومه، فيحدثههم عن النبي الذي ظهر يدعو الى عبادة الله وحده ويهدي لمكارم الأخلاق، ويدخل قومه في الاسلام، واحدا اثر واحد.. ولا يمتفي بقبيلته غفار، بل ينتقل الى قبيلة أسلم فيوقد فيها مصابيحه..!!
وتتابع الأيام رحلتها في موكب الزمن، ويهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم الى المدينة، ويستقر بها والمسلمون معه.
وذات يوم تستقبل مشارفها صفوفا طويلة من المشاة والركبان، أثارت أقدامهم النقع.. ولولا تكبيراتهم الصادعة، لحبسهم الرائي جيشا مغيرا من جيوش الشرك..
اقترب الموكب اللجب.. ودخل المدينة.. ويمم وجهه شطر مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومقامه..
لقد كان الموكب قبيلتي غفار وأسلم، جاء بهما ابو ذر مسلمين جميعا رجالا ونساءا. شيوخا وشبابا، وأطفالا..!!
وكان من حق الرسول عليه الصلاة والسلام أن يزداد عجبا ودهشة..
فبالأمس البعيد عجب كثيرا حين رأى أمامه رجلا واحدا من غفار يعلن اسلامه وايمانه، وقال معبّرا عن دهشته:
"ان الله يهدي من يشاء"..!!
أما اليوم فان قبيلة غفار بأجمعها تجيئه مسلمة..وقد قطعت في الاسلام بضع سنين منذ هداها الله على يد أبي ذر، وتجيء معها قبيلة أسلم..
ان عمالقة السطور وحلفاء الشيطان، قد أصبحوا عمالقة في الخير وحلفاء للحق.
أليس الله يهدي من يشاء حقا..؟؟
لقد ألقى الرسول عليه الصلاة والسلام على وجوههم الطيبة نظرات تفيض غبطة وحنانا وودا..
ونظر الى قبيلة غفار وقال:
"غفار غفر الله لها".
ثم الى قبيلة أسلم فقال:
"وأسلم سالمها الله"..
وأبو ذر هذا الداعية الرائع.. القوي الشكيمة، العزيز المنال.. ألا يختصه الرسول عليه الصلاة والسلام بتحية..؟؟
أجل.. ولسوف يكون جزاؤه موفورا، وتحيته مباركة..
ولسوف يحمل صدره، ويحمل تاريخه، أرفع الأوسمة وأكثرها جلالا وعزة..
ولسوف تفنى القرون والأجيال، والناس يرددون رأي الرسول صلى الله عليه وسلم في أبي ذر:
" ما أقلّت الغبراء، ولا أظلّت الصحراء أصدق لهجة من أبي ذر"..!!
ويدرك الرسول عليه الصلاة والسلام طبيعة تلميذه الجديد الوافد، وقدرته اباهرة على مواجهة الباطل.. بيد أن وقته لم يأت بعد، فيعيد عليه أمره بالعودة الى قومه، حتى اذا سمع بظهور الدين عاد وأدلى في مجرى الأحداث دلّوه..
**
أصدق لهجة في أبي ذر..؟
لقد قرأ الرسول عليه الصلاة والسلام مستقبل صاحبه، ولخص حياته كلها في هذه الكلمات..
فالصدق الجسور، هو جوهر حياة أبي ذر كلها..
صدق باطمه، وصدق ظاهره..
صدق عقيدته وصدق لهجته..
ولسوف يحيا صادقا.. لا يغالط نفسه، ولا يغالط غيره، ولا يسمح لأحد أن يغالطه..
ولئن يكون صدقه فضيلة خرساء.. فالصدق الصامت ليس صدقا عند أبي ذر..
انما الصدق جهر وعلن.. جهر بالحق وتحد للباطل..تأييد للصواب ودحض للخطأ..
الصدق ولاء رشيد للحق، وتعبير جريء عنه، وسير حثيث معه..
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم ببصيرته الثاقبة عبر الغيب القصيّ والمجهول البعيد كل المتاعب التي سيفيئها على أبي ذر صدقه وصلابته، فكان يأمره دائما أن يجعل الأناة والصبر نهجه وسبيله.
وألقى الرسول يوما هذا السؤال:
" يا أبا ذر كيف أنت اذا أدركك أمراء يستأثرون بالفيء"..؟
فأجاب قائلا:
"اذن والذي بعثك بالحق، لأضربن بسيفي".!!
فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام:
"أفلا أدلك على خير من ذلك..؟
اصبر حتى تلقاني".
ترى لماذا سأله الرسول هذا السؤال بالذات..؟؟
الأمراء.. والمال..؟؟
تلك قضية أبي ذر التي سيهبها حياته، وتلك مشكلته مع المجتمع ومع المستقبل..
ولقد عرفها رسول الله فألقى عليه السؤال، ليزوده هذه النصيحة الثمينة:"اصبر حتى تلقاني"..
ولسوف يحفظ أبو 1ر وصية معلمه، فلن يحمل السيف الذي توّد به الأمراء الذين يثرون من مال الأمة.. ولكنه أيضا لن يسكت عنهم لحظة من نهار..
أجل اذا كان الرسول قد نهاه عن حمل السيف في وجوههم، فانه لا ينهاه عن أن يحمل في الحق لسانه البتار..
ولسوف يفعل..
**